السؤال
إذا فسق أحدهم، ثم تاب. فما هي المدة التي نحتاجها للحكم عليه بالعدالة هل يكفي شهر؟
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهذا محل خلاف بين أهل العلم، فمنهم من لا يعتبر إلا التوبة، ومنهم من لا يحكم بالعدالة بمجرد التوبة، بل لا بد معها من مدة يظهر فيها إصلاح عمله. ومن هؤلاء من يحدد هذه المدة بسنة، ومنهم من يحددها بستة أشهر، ومنهم من يقول: إنها تختلف بحسب الذنب، وبحسب حال التائب.
قال ابن قدامة في المغني: ظاهر كلام أحمد والخرقي أنه لا يعتبر في ثبوت أحكام التوبة، من قبول الشهادة، وصحة ولايته في النكاح: إصلاح العمل. وهو أحد القولين للشافعي.
وفي القول الآخر: يعتبر إصلاح العمل، إلا أن يكون ذنبه الشهادة بالزنى، ولم يكمل عدد الشهود، فإنه يكفي مجرد التوبة من غير اعتبار إصلاح، وما عداه فلا تكفي التوبة حتى تمضي عليه سنة، تظهر فيها توبته، ويتبين فيها صلاحه.
وذكر أبو الخطاب هذا رواية عن أحمد؛ لأن الله تعالى قال: {إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا}. وهذا نص، فإنه نهى عن قبول شهادتهم، ثم استثنى التائب المصلح؛ ولأن عمر -رضي الله عنه- لما ضرب صبيغا أمر بهجرانه، حتى بلغته توبته، فأمر أن لا يكلم إلا بعد سنة. ولنا، قوله صلى الله عليه وسلم: "التوبة تجب ما قبلها". وقوله: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له". ولأن المغفرة تحصل بمجرد التوبة، فكذلك الأحكام، ولأن التوبة من الشرك بالإسلام لا تحتاج إلى اعتبار ما بعده، وهو أعظم الذنوب كلها، فما دونه أولى.
فأما الآية، فيحتمل أن يكون الإصلاح هو التوبة، وعطفه عليها لاختلاف اللفظين، ودليل ذلك قول عمر لأبي بكرة: "تب، أقبل شهادتك". ولم يعتبر أمرا آخر، ولأن من كان غاصبا فرد ما في يديه، أو مانعا للزكاة فأداها وتاب إلى الله -تعالى- قد حصل منه الإصلاح، وعلم نزوعه عن معصيته بأداء ما عليه، ولو لم يرد التوبة لما أدى ما في يديه، ولأن تقييده بالسنة تحكم لم يرد الشرع به، والتقدير إنما يثبت بالتوقيف.
وما ورد عن عمر في حق صبيغ إنما كان لأنه تائب من بدعة، وكانت توبته بسبب الضرب والهجران، فيحتمل أنه أظهر التوبة تسترا، بخلاف مسألتنا ... اهـ.
وقال العز بن عبد السلام في «قواعد الأحكام»: إن قيل: متى يحكم بشهادة الفاسق إذا تاب مع كونه مدعيا للتوبة، فإن ركنيها، وهما الندم والعزم من أعمال القلوب؟
قلنا: القاعدة أن ما لا يعلم إلا من جهة الإنسان، فإنا نقبل قوله فيه ... وأما التائب فلا يقبل قوله مع توبته حتى نحكم بعدالته، ولا بد أن تمضي مدة طويلة يعلم في مثلها صدقه بملازمته للمروءة، واجتناب الكبائر وتنكب الإصرار على الصغائر، فإذا انتهى إلى حد يغلب على الظن عدالته، كما يغلب على الظن عدالة غيره من العدول قبلنا شهادته؛ لإفادتها الظن الذي يفيده قول غيره من العدول، وقد اختلف في مقدار هذه المدة، فقدرها بعضهم بستة أشهر، وذلك تحكم. والمختار أن ذلك يختلف باختلاف ما ظهر من التائبين من التلهف والتأسف والتندم، والإقبال على الطاعات وحفظ المروءات، والتباعد عن المعاصي والمخالفات، ويدل على ذلك قوله تعالى في القذفة: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون. إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا} [النور: 4 ، 5]. فشرط في قبول الشهادة بعد التوبة الإصلاح، وليس هذا شرطا في التوبة في نفس الأمر، فإن التوبة إذا تحققت بنيت عليها الأحكام في الباطن، وأما في الظاهر فلا بد من اختباره واستبرائه حتى يظهر صدقه في دعواه التوبة، فتعود إليه في الباطن كل ولاية تشترط فيها العدالة، ولا يعود شيء من ذلك في الظاهر إلا بعد استبرائه. اهـ.
وقال ابن الوزير في «العواصم والقواصم»: التائبُ من الفسق الصريح لا تُقْبَلُ شهادتُه عند توبته حتى تمضي مدة يُظن فيها صدقُ توبتِه، وتظن عدالتُه كما تظن عدالةُ غيره، وقد قدَّرها بعضُهم بسنة، وبعضُهم بستة أشهر. والقوي أن أحوال التائبين تختلِفُ، وقد يظهر على التائب من التلهُّفِ والتأسُّف والبُكاء والجزع ما يقضي بصدقه، فدل هذا على أن العلة قوهُ الظن، ولو كانت العلةُ المنصب لاستحقَّها التائبُ عند ظهور التوبة، كما يستحق التكرمةَ والتعظيمَ، وسائر حقوق المؤمنين بالإجماع. اهـ.
والله أعلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق