التكافل الاجتماعي في الإسلام
اهتمّ
الإسلام
بكافة شرائح المجتمع، وكانت نظرته للضعفاء والمساكين قائمةً على الرّفق
بهم وعونهم، وحثّ الإسلام في كثيرٍ من النصوص الشرعية على إعانة المحتاجين
والفقراء والمساكين، بل إنّ التّشريع الإسلامي كفل لهم كثيراً من
احتياجاتهم عبر وسائل عدّة، جعل منها حصّةً يلتزم بها القادرون والموسرون
من المسلمين؛ ففرض
الزكاة
على الأموال بأصنافها الكثيرة، وحدّد مصارفها ووجوه إنفاقها، كما شرّع
صدقاتٍ واجبةً؛ كصدقة الفطر، وأوجب كفّاراتٍ كثيرةً توجب على أصحابها إطعام
الفقراء والمساكين، وكلّ ذلك يسير في مركب سدّ عوز المحتاجين في الأمّة،
وعون غير القادرين على كفاية أنفسهم ومن يعيلون، وتقع هذه التشريعات
المباركة ضمن منهجٍ إسلامي يهدف إلى تحقيق التكافل الاجتماعي في الأمّة،
ويؤكّد على الشراكة في المسؤولية، وأنّ المسلم أخو المسلم ينصره ولا يخذله،
ويعينه ولا يتخلّى عنه، ومن أبرز صور التكافل الاجتماعي إطعام المسكين في
الفقه الإسلامي، فما المقصود بإطعام المسكين، ومقداره؟
تعريف المسكين ومقدار الإطعام
إنّ الوقوف على مفهوم المسكين في الفقه الإسلامي، يكشف مدى حاجته للإطعام
والإحسان ومدّ يد العون، كما يدرك المرء عناية الإسلام بهذه الفئة من خلال التشريعات الفقهية الكثيرة.
مفهوم المسكين اصطلاحاً
المسكين في اصطلاح الفقهاء هو صاحب الحاجة، الذي لا يكفيه ما بين يديه، واختلفت آراء المذاهب في بيان حدّه؛
فالحنفية
والمالكيّة، قالوا: هو من لا يملك شيئاً، وذهب الشافعية إلى أنّه من يقدر
على اكتساب أو تحصيل مالٍ يسدّ به جزءاً من كفايته، وتوسّع
الحنابلة في حدّه؛ فقالوا: من يجِد معظم كفايته أو نصفها من كسبٍ أو من غيرِ كسبٍ يعدّ مسكيناً، والعلماء على أنّ المسكين
كالفقير يجتمعان في العوز والحاجة، وإن اختلف بيان حدّ كلٍّ منهم عند الفقهاء.
[١]
مقدار إطعام المسكين
تناول الفقهاء مسألة مقدار الإطعام للمسكين بقدرٍ وافٍ من التفصيل، وبيان ذلك على النحو الآتي:
- مذاهب الفقهاء في مقدار إطعام المسكين: تعدّدت مذاهب الفقهاء
في مسألة مقدار إطعام المسكين؛ فمذهب الحنفية أنّه يجِب لكلّ فقيرٍ نصف
صاعٍ من البُرّ -أي القمح- أو طحين القمح، أو صاعٌ من تمرٍ أو صاعٌ من
شعيرٍ، واعتمد الشافعِية وجوب مُدٌّ واحدٌ من غالب قُوت البلد لكلّ فقيرٍ،
وذهب المالكية إلى وجوب مُدٍّ من بُرٍّ لكلّ فقيرٍ، أو مقدار ما يكفي
لإشباع المرء عادةً، وحدّدوا ذلك بأصنافٍ سبعةٍ من الأَقوات، وهي: القمح والشعير وَالسُّلت، والذرة، والدخن، والأرز، والتمر والزبيب، والأقط، بينما قال الحنابلة: إنّه يجب مُدٌّ مِن برٍّ أو نصف صاعٍ من شعيرٍ أو تمر أو زبيبٍ أو أقطٍ لكلّ مسكينٍ.[٢]
- مقدار الصاع والمدّ في الأوزان المعاصرة: الصاع كما هو مقرّرٌ
عند أهل الفقه أربعة أمدادٍ، ومقدار المدّ يكون بملء كفَّيّ الرجل معتدل
اليدين؛ وبناءً على ذلك فالصاع يساوي اثنا كيلو غراماً ونصف حسب وحدة القياس المعاصر.[٣]
مظاهر كفاية المسكين في الإسلام
ثمّة مظاهر كثيرةٌ مستقاةٌ من أحكام الشريعة الإسلاميّة، دالّةٌ على حرص الإسلام على كفاية المسكين، ومن هذه المظاهر:
[١]
- أنّ المسكين يعدّ مصرفًا أصيلاً من مصارف الزكاة؛ لقول الله تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ).[٤]
- اتّفق جمهور الفقهاء على أنّ للمسكين سهماً واجباً فِي خُمس مال الغنيمة، وَاستدلّوا بقول الله تعالى: (وَاعْلَمُوا
أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُول
وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيل).[٥]
- عدّ الفقهاء الوقف على المساكين باباً من أبواب الموقوف عليه، وقالوا: إنّ الوقف يقصد به إزالة ملكٍ عن الموقوف؛ بهدف القُربة لله تعالى، والمسكين ممّن تتحصّل القربة بالوقف عليه.
- أوجب الشرع إطعام المسكين وكسوته بصورٍ متعدّدةٍ في الفدية والكفّارات التي تلزم المسلم، كما سيأتي تفصيله.
موجبات إطعام المسكين في الكفّارات
تتعدّد موجبات الكفّارات وتختلف في ما تلزمه كلّ كفارةٍ منها من أحكامٍ
على مرتكب الفعل الموجب للكفارة، وفي ما يأتي تفصيلٌ لأنواعٍ من الكفّارات
التي توجب على أصحابها إطعام المساكين في أحوالٍ:
- الكفّارة: وجمعها كفّارات، وهي تصرّفٌ أوجبه الشرع الحكيم
تستر عيب من لزمته وتغفر له عند ربّه، وتتضمّن صدقةً أو صوماً أو نحوهما،
ومن الأمثلة عليها كفّارة اليمين، وكفّارة الفطر، وكفّارة عند ترك بعض
أعمال الحج، وسمِّيت بذلك؛ لأنّها تكفِّر الذّنوب وتسترها.[٦]
- الأسباب الموجبة لإطعام المساكين في الفقه الإسلامي على وجوه:[٧]
- الحنث في اليمين: وتجب بالحنث فيه، وإنّما لزم الحنث؛ لمخالفة الحالف ما انعقدت عليه يمينه، وذلك بفعل ما حلف على عدم فعله، أو ترك ما حلف على فعله، والفقهاء مجمعون على أنّ كفّارة اليمين
تجب بحقّ الحانث على التخييرِ ابتداءً، فيختار في أولها بين إطعام عشرة
مساكين أو كسوتهم أو تحرِيرِ رقبةٍ، ثمّ إن لم يجد لزمه صيام ثلاثة أَيامٍ؛
لقول الله تعالى: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ
أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ
رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ).[٨]
- الجماع: وذلك بممارسة الجماع في نهار شهر رمضان، قصداً من غيرِ
عذرٍ، ومذهب الجمهور على أنّ كفّارة الجماع على المكفِّرِ بأن يعتق رقبةً
إِذا استطاع إِلى ذلكَ سبيلاً، فَإِن لم يجِد، فعليه صيام شهرين متتابعين،
فإن عجز من جامع في نهار رمضان عن صوم شهرين متتابعين، لهَرمٍ أو مرضٍ أو
خشية زيادةٍ للمرضٍ بسبب الصوم؛ فعليه إطعام ستِين مسكيناً، وشاهد ذلك
مارواه أبو هريرة رضي الله عنه: (أتَى رجلٌ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ
وسلَّمَ، فَقالَ: هلَكْتُ، فَقالَ: ما شأنُكَ؟ قالَ: وقَعتُ على امرأتي في
رمضانَ، قالَ: فَهَل تجدُ ما تُعتقُ رقبةً ؟ قالَ : لا ، قالَ: فَهَل
تستطيعُ أن تصومَ شَهْرينِ مُتتابعَينِ؟ ، قالَ : لا، قالَ: فَهَل تَستطيعُ
أن تُطْعِمَ ستِّينَ مسكينًا؟ قالَ: لا ، قالَ: اجلِس، فأُتِيَ النَّبيُّ
صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ بعَرقٍ فيهِ تمرٌ، فقالَ: تصدَّق بِهِ،
فقالَ: يا رسولَ اللَّهِ، ما بينَ لابَتيها أَهْلُ بيتٍ أفقرُ منَّا،
فضحِكَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ حتَّى بدَت ثَناياهُ،
قالَ: فأطعِمهُ إيَّاهُم).[٩]
- الظهار: زذلك أن يقول المسلم لامرأته: أنت عليَّ كظهر أُمِّي،
وبذلك يكون قد ظاهر منها، ويلزمه للرجوع إليها كفّارة الظهار، وتجب
بالترتيب على النحو المذكور في كفارة الجماع في رمضان.
المراجع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق