شاعر القطرين خليل مطران
شاعر القطرين الشاعر خليل مطران، هو شاعرٌ لبنانيٌّ شهير ولدَ في بعلبك في لبنان عام 1872م، وعاش معظم حياته في مصر، عُرفَ عنه أنَّه يغوص في المعاني، وقد جمعَ بين الثقافة العربية والأجنبية، ودعا إلى التجديد في الأدب والشعر العربي فكان من أوائل الذين أخرجوا الشعر من أغراض الشعر التقليدية والبدوية إلى أغرض حديثة تناسب العصر مع الحفاظ على اللغة والتعابير، عمل بالتاريخ والترجمة، وكان من روَّاد النثر، وقد تميَّز بغزارة علمه وإلهامه بالأدب الفرنسي والعربي بالإضافة إلى رقَّة طبعه ومسالمته وقد انعكس هذا على أشعاره، ويسمَّى شاعر القطرين مصر ولبنان، توفي عام 1949م في مصر، وهذا المقال سيتحدث عن قصيدة المساء ومناسبة هذه القصيدة. [١]شرح قصيدة المساء
كتب الشاعر خليل مطران الكثير من الشعر وتركَ ميراثًا ضخمًا من روائع القصائد الشعريَّة، وقد تميَّز أسلوبه الشعريُّ بالصدقِ الوجداني والأصالةِ والرنَّة الموسيقيَّة العذبة، وكذلك يعدُّ مطران من المجدِّدين في الشعر العربي الحديث، ومن أشهر قصائده التي اشتهرت في معظم الدول العربية وأدرجت في بعض مناهج التعليم هي قصيدة المساء والتي يفتتحها الشاعر بقوله: "داءٌ ألمَّ فخلتُ فيه شفائِي"، وفيما يأتي مطلع قصيدة المساء: [٢]داءٌ ألَمَّ فَخِلتُ فيهِ شفَائِي منْ صبوَتِي فتَضاعفَتْ بُرَحائِي
يا للضَّعيفَينِ اسْتبَدَّا بي ومَا في الظُّلمِ مِثلُ تَحكُّمِ الضُّعفاءِ
قَلبٌ أَذَابَتْه الصَّبابَةُ والجَوَى وغِلالَةٌ رثَّتْ منِ الأَدوَاءِ
والرُّوحُ بينهُمَا نسِيمُ تنَهُّدٍ في حالَيَ التَّصويبِ والصُّعداءِ
والعَقلُ كالمِصبَاحِ يغشَى نُورَهُ كدرِي ويُضعِفهُ نضوبُ دمَائِي
هذَا الَّذي أَبقَيتِهِ يا مُنيَتِي منْ أَضلُعِي وحَشاشتِي وذكَائِي
عُمرَينِ فيكِ أَضَعتُ لَو أَنْصَفتنِي لمْ يَجدرَا بِتَأسُّفي وبُكائِي
عُمرَ الفَتَى الفَانِي وعُمرَ مُخلَّدٍ ببيانِهِ لَولاكِ في الأَحيَاءِ
فغَدوتَ لَم أَنعَمْ كذِي جَهلٍ وَلم أغنَمْ كذِي عَقلٍ ضمَانَ بقاءِ
يبدأ الشاعر قصيدة المساء بالحديث عن المرض الذي أصابه، وقد ظنَّ الشاعر أن المرض الجسدي هذا قد يشفيه من آلام الحبِّ والهوى، ولكنَّ آلامه تضاعفت وعذابه بدأ يزداد، وصار القلب والجسد يتوجَّعان من المرض وألم الحبِّ، ويتحكَّمان بي رغم ضعفهما ورغم ما بهما من حزن وألم وعذاب ومرض، ولم يبق بين القلب والجسد إلا روحٌ ضعيفةٌ منهكةٌ مما ألمَّ بها، ولذلك لم يعد يستطيع الشاعر أنّ يرى الأشياء بوضوح، فلم تبقِ له الحبيبة من جسده شيئًا على ما يرام، وقد أضاع فيها عمرين، شبابَه الذي لم يتنعم به، ونتاجَه الأدبي الذي تراجع كثيرًا فلم يستطع أن ينعمَ كالأدباء ببيانه وكتاباته فغدا ضائعًا بين هذا وذاك، أنهكه الحبُّ والهوى وغلبه المرض والألم.، ويُكملُ الشاعر قصيدته قائلًا: [٣]
يا كَوكبًا مَن يَهتدِي بضيائِهِ يهدِيهِ طالِعُ ضلَّةٍ وريَاءِ
يا مورِدًا يسقِي الورُودَ سرابُهُ ظمَأً إلى أَن يهلِكُوا بظمَاءِ
يا زهرَةً تحيِي رواعِيَ حُسنهَا وتُمِيتُ ناشِقَهَا بلاَ إِرعَاءِ
هذا عتَابُكِ غَيرَ أنِّيَ مُخطِيءٌ أَيُرامُ سَعدٌ في هوَى حَسنَاءِ
حاشَاكِ بَل كتِبَ الشَّقاءُ عَلى الورَى والحُبُّ لَم يَبرحْ أَحبَّ شَقاءِ
نِعمَ الضَّلالةُ حَيثُ تُؤنِسُ مُقلتِي أَنوارُ تِلك الطَّلعَةِ الزَّهرَاءِ
نِعمَ الشفاءُ إِذا روِيتُ بِرشفَةٍ مكذُوبَةٍ مِن وَهمِ ذاكَ الماء
نِعمَ الحيَاةُ إذا قضَيتُ بِنَشقةٍ مِن طيبِ تلكَ الرَّوضَةِ الغنَّاءِ
إنِّي أَقَمتُ على التَّعلَّة بالمنَى في غُربةٍ قالوا تكُونُ دوَائِي
إِن يشْفِ هذَا الجِسمَ طيبُ هَوائِهَا أيُلطف النِّيرَانَ طيبُ هَواءِ
أو يُمسِكِ الحَوبَاءَ حُسنُ مُقَامهَا هَل مسكَةٌ في البُعدِ للحَوبَاءِ
يتابع الشاعر خليل مطران قصيدته موجِّهًا خطابه الحزين والممزوج بالأسى إلى محبوبته معاتبًا، فهي موردٌ يسقي الظمأ للورود حتى تموت من العطش، وهي زهرة تُميتُ من يقترب منها ليشمَّها بلا رعاية، لكنَّ الشاعر يوقنُ أن الشقاء كُتبَ على كل الناس ومع ذلك فإن الحب لم يزل أحبَّ شقاءٍ إليه، ثمَّ يمتدحُ الشاعر ضلاله وهلاكه في محبوبته، ويقول: إني أقمتُ في هذه البلد الغريب في الإسكندرية حتى أحصل على الشفاء، فإن كان هواؤها يشفي المرض الجسدي فهل يمكنه أن يشفي مرض الهوى. ويكملُ الشاعر قصيدة المساء قائلًا:
عبَثٌ طَوافِي فِي البِلاَدِ وعِلَّةٌ في علَّةٍ مَنفايَ لاِستشفَاءِ
متَفَرِّدٌ بِصبَابَتِي مُتفَرِّد بِكَآبتِي مُتفرِّدٌ بَعنَائِي
شاكٍ إِلى البَحرِ اضطَرابَ خَواطِرِي فَيجِيبُنِي بِرِياحِهِ الهَوجَاءِ
ثاوٍ عَلى صَخرٍ أَصمَّ وَلَيتَ لِي قَلبًا كَهذِي الصَّخرَةِ الصَّمَّاءِ
يَنتَابُها مَوجٌ كَمَوجِ مَكارِهِي ويَفُتُّهَا كالسُّقمِ فِي أَعضَائِي
وَالبَحرُ خفَّاقُ الجوَانِبِ ضائِقٌ كَمَدًا كصدْرِي ساعَةَ الإِمسَاءِ
تَغشَى البَريَّةَ كُدرَةٌ وكأَنَّهَا صَعِدتْ إِلى عَينيَّ مِن أَحشَائي
وَالأُفقُ مُعتَكِرٌ قرِيحٌ جَفنُهُ يُغضِي عَلى الغَمرَاتِ والأَقْذَاءِ
يا لَلغُرُوبِ ومَا بِه مِن عِبرَةٍ للِمستَهَامِ وَعِبْرةٍ للرَّائي
أَولَيْسَ نَزعًا للنَّهَارِ وصَرعَةً للشَّمْسِ بَينَ مآتِمِ الأَضْوَاءِ
أَولَيْسَ طَمسًا لِليقِينِ ومَبعَثًا للشَّكِّ بينَ غلائِلِ الظَّلمَاءِ
أولَيْسَ مَحوًا للوُجُودِ إلى مدىً وإبَادَةً لمعَالِمِ الأشيَاءِ
حتَّى يكُونَ النُّور تجْدِيدًا لهَا ويَكونَ شِبهَ البَعثِ عَودُ ذُكاءِ
ولَقَدْ ذكَرتُكِ والنَّهَارُ موَدِّعٌ والقَلْبُ بَينَ مَهابَةٍ ورَجاءِ
وخَواطِرِي تَبدُو تُجاهَ نوَاظِرِي كَلمَى كَدامِيَةِ السَّحابِ إزائِي
والدَّمعُ مِن جَفنِي يسِيلُ مُشَعشَعًا بِسنَى الشُّعاعِ الغَارِبِ المتَرَائِي
والشَّمْسُ في شفَقٍ يسِيلُ نُضارُهُ فَوقَ العقِيقِ على ذُرىً سَودَاءِ
مرَّتْ خِلاَل غَمَامتَيْنِ تَحَدُّرًا وَتَقطَّرَت كالدَّمعَةِ الحَمرَاءِ
فكَأَنَّ آخرَ دَمعةٍ لِلكوْنِ قدْ مزِجَتْ بآخرِ أَدمعِي لرِثَائِي
وكأَنَّنِي آنَستُ يَومِيَ زَائِلًا فَرأَيتُ في المِرآةِ كَيفَ مَسائي
يقول الشاعر في نهاية قصيدة المساء: إنَّ تنقُّلي في البلاد بحثًا عن الشفاء غير مجدٍ؛ لأنَّ دائي يزداد في المنفى بالبعد عن الحبيبة وأنا متفردٌ بلوعتي وحزني ومعاناتي، وعندما أقفُ أشكو إلى البحر ما بي من اضطرابِ مشاعري وأفكاري لا يجيبني إلا برياحِه العاتية الشديدة، وأنا جالسٌ على هذا الصخر الأصمِّ، وكم أتمنى لو أنّ لي قلبًا مثل هذه الصخرة الصماء لا يتأثر بالحب والمرض، ثمَّ يشبِّهُ البحر والموج والأفق بما يختلطُ في نفسه ويضطربُ من مشاعر، ثمَّ يتأمَّل الغروبَ ويتلو في وصفه صلواتٍ رنَّانةٍ تبعثُ اليأس في النفوس، فالغروبُ هو الذي ينزعُ النَّهار ويقضي على الشَّمسِ بين مآتمِ الأضواء، وهو الذي يمحو الوجود بالظلام الذي يجيءُ به ويخفي معالمَ الأشياء أيضًا، ثمَّ يتذكَّر الشاعر محبوبته في نهاية النَّهار وقلبه يتأرجح بين الحزن والألم وروعة الغروب ودموعه تسيل من عينيه وكأنَّ دموع الكون قد مزجت بدمع رثائه، فيرى أنَّ يومَه على حافة الزوال ورأى في مرآة الغروب مساءه الأخير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق