بداية دعونا نُعيد الصفر لأصحابه! فأول من تحدث عن الصفر هم الهنود، وقيل هم البابليون في نظام العد الخاص بهم، لكن الأرجح أنهم الهنود، وذلك لأن الصفر لدى البابليين لا يكافئ صفرنا الحالي تماما، لأن )صفرهم( لم يكن عددا في حد ذاته، بل مجرد خانة ولا يحمل أي قيمة، لذا يبدأ نظام العد عندهم من العدد 1. أما الهنود فقد تعاملوا معه عددا وخانة في الوقت نفسه ويسمى )سونيا sunya (، وتعني الخالي ويرمزون له بالدائرة الصغيرة المفرغة o( ( والنّقطة ).( .
ولما نقلت كتب الهند إلى العالم الإسلامي أيام الدولة العباسية عرف العرب شكل الصفر. أقول شكله، أما مدلوله اللغوي فمعروف
لديهم بنفس الاسم )الصفر( من قبل ذلك تدل على شواهد من العربية منها :
جاء في أخبار العرب في عصر الجاهلية قولهم عاد صفر اليدين، وكذلك شهر صَفَر قيل أنه سُمي صفرًا لأنه يعقب شهر الله المحرم
وهو من الأشهر الحرم وكانت البلاد تخلو من أهلها لخروجهم إلى الحرب، فتخلوا أي تصفر من أهلها!
وجاء في الحديث الشريف “ إن ربكم تبارك وتعالى حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً”.
الذي جاء من الهند هو مدلوله الرياضي ورمزه. بمعرفة الصفر تغيّت أنظمة العد، وصارت تبدأ بالصفر كالنظام العشري مثلا.
وأصبح الصفر يمثل الخانة أو المرتبة الخالية في حالة عدم وجود عدد، وصارت قيمة العد تكتسب من خانته. هذا النمط اختصر كثيرا مما كان سائدا في النظام الروماني – آنذاك- فبدلاً أن تكتب الرقم 44 – مثلا- بالاستعانة ب 6 رموز في النظام الروماني للأرقام هكذا XXXXIV )حيث لاقيمة للخانة(، يكفي رمزان هما 44 .
قد يقول قائل : ربما قام بهذا الدور أي عدد آخر غير الصفر؟
أقول: ربما، لكن يجب أن يكون هذا العدد يدل على الخلو في ذاته – لوحده- وكذلك في مرتبته أو خانته التي يوضع فيها.
الآن ...ماذا لو لم يُخترع الصفر في الرياضيات؟
طبعا كان نظام العد الروماني سيظل سائدًا بتعقيداته ورموزه الكثيرة، مما يؤخر تقدم رياضيات مرتبطة بالأرقام العربية اليوم.
ومن ذلك علم الجبر algebra نفسه الذي طوره العرب وأعطوه هذا الاسم، والذي قفز قفزة نوعية في ظل نظام العد العربي المحتوي
على الصفر.
وكذلك لو لم يُخترع الصفر ما كان للنظام الثنائي binary system – القائم على الصفر والواحد- أن يظهر، وبالتالي ما هناك لا جبر
بولياني Boolean Algebr ولا مجموعات the
set ولا منطق رياضي ، thematical logic
مما يؤخر أو يمنع ظهور دوائر المنطقية أساس عمل الحاسوب اليوم، وبالتالي لا وجود لكل هذه التكنولوجيا الرقمية التي نعيش في ظلها؛ فلا حاسوب ولا إنترنت ولا شيء من هذا ! في الهندسة عدم وجود الصفر يعني لا وجود لنقطة الأصل الصفرية التي وضعها ديكارت في نظام الإحداثيات المرتبطة باسمه؛ الإحداثيات الكارتيزية Cartesian coordinate التي يعرفها كل طالب في المرحلة الثانوية. صحيح أن النقطة موجودة منذ أقليدس ضمن بديهياته – عبارة عن كائن رياضي لا أبعاد لها، لكن ديكارت جعل الصفر قيمتها لتكون بداية المحاور نحو المالانهاية.
فبدون الصفر لا إحداثيات ديكارتية وبالتالي لا هندسة تحليلية Analytic geom�
etry ؛ الأداة الرابطة بين الجبر والهندسة، مما يؤخر ظهور حلول للمعادلات
الحبرية ذات الدرجات العليا )تربيعية أو تكعيبية أو أكبر(، لأن المعادلات كانت تحل بالمصفوفات منذ زمن البابليين.
عدم وجود الصفر يعني عدم التمييز بين
الأعداد الموجبة والسالبة، مما يؤثر على ظهور
أعداد معينة من أمثال العدد التخيليلي imag�
inary number (i ( وهذا يفقدنا تطبيقاته
الجمة في الفيزياء.
عدم وجود الصفر يعني عدم وجود النهايات في الرياضيات والمشتقة القائمة على الاقتراب من الصفر، وبالتالي لا وجود لقوانين المشتقة ولالحساب التفاضل والتكامل Calculus ، وهنا تنهار الفيزياء القائمة على تلك القوانين !
فقوانين الجاذبية – مثلا- التي قدمها نيوتن في منتصف القرن السابع عشر الميلادي قامت على ابتكاره لقوانين التفاضل )ابتكرها مع ليبنتز كلا على حده(. تبعات أخرى في حالة عدم وجود الصفر، هل كان اصطلاح لخط جرينتش Greenwich لتحديد التوقيت
العالمي؟ هذا الخط الوهمي هو الخط )الصفري( طولاً، ومثله أيضا خط الاستواء Equator عرضًا.
وماذا عن القانون الصفري في الديناميكا الحرارية Thermodynamics )يوصف نظام بأنه في حالة توازن حراري عندما لا تتغير درجة فبدون الصفر لا إحداثيات ديكارتية وبالتالي لا هندسة تحليلية Analytic geometry ؛ الأداة الرابطة بين الجبر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق